صحيفة الأخبار ـ
آمال خليل:
يستعدّ عدد من الناشطين من أبناء صور لجمع تواقيع شعبية لإعادة الترسيم العقاري الحالي لمدينتهم. التقسيم الذي رُسم قبل 75 عاماً، قلّص حدود المدينة وضيّق على سكانها حدّ الاختناق. تفرّقوا عنها إما هجرة أو نزوحاً ولا يزالون يشكون فراقها
في مدينة جنيف، توفي مطلع الشهر الجاري الياس شربين. ابن صور الذي ولد ونشأ فيها، والذي ترتفع لافتة حديدية باسمه في إحدى ساحات حارتها القديمة، صارت إحدى المقابر السويسرية مسقط رأسه. انتشار خبر وفاة «الخيّر الكبير» هادئاً ومتأخراً أكثر من أسبوعين في مسقط رأسه الأصلي، دفع البعض من أبناء صور إلى نظرة تأملية في ماضيهم ومستقبلهم. شربين ليس الوحيد الذي مات ودفن في الغربة، بل إن المئات من الصوريين، تركوا مسقط رأسهم لأسباب مختلفة، ونقلوا سجلات نفوسهم إلى أماكن أخرى ولم يعودوا إليها. إلا أن لظاهرة الهجرة أو النزوح عن صور، أشكالاً مختلفة تؤدي إلى النتيجة ذاتها برأي الكثيرين: تشتت سكانها وضياع هويتها.
في الطريق إلى مدينة صور، تظل بلدية العباسية ترحب بكم، بدءاً من حدود بلدة البرغلية وصولاً إلى حدود دوار البص، علماً بأن الآلاف من المسجّلين في قيود صور يسكنون داخل تلك الحدود وخصوصاً في قدموس وجل البحر التابعتين عقارياً للعباسية. خلال سلوك مسافة بضعة كيلومترات من البصّ جنوباً للوصول إلى مدخل صور الجنوبي، يكتشف المرء بأنه خرج عن حدود صور العقارية ليصبح في البرج الشمالي ثم في عين بعال. على الرغم من أن الآلاف أيضاً من أبنائها يقيمون في الأحياء الحدودية، وخصوصاً في منطقة الحوش. من هنا، يحرص الكثيرون منهم على القول أمام الزائر: هل تريد أن تصل إلى صور أم إلى أهلها؟ في إشارة إلى أن أكثر من 60% من أبنائها يقيمون خارجها. أما النسبة المتبقية من عائلاتها الأصلية، فإنها تتكدّس في الحارة القديمة بأحيائها الثمانية وفي أجزاء من أحياء استحدثت لاحقاً. هذه المعادلة فرضها التقسيم العقاري الذي أنجز في عهد الانتداب الفرنسي في عام 1936، وأعطى نحو سبعة كيلومترات من اليابسة إلى مدينة صور. أما للبلدات المجاورة، فقد وزّع نحو 35 كيلومتراً إلى العباسية و18 كيلومتراً إلى البرج الشمالي وأكثر من 20 كيلومتراً إلى عين بعال. وفي هذا الإطار، يوضح الباحث منير بدوي في دراسته حول «منطقة صور العقارية» الأسباب التي أدّت إلى «انكماش» مساحتها ومنها أن «الفرنسيين منحوا أبناء طائفة الكاثوليك مساحات واسعة في سهل العباسية (جل البحر حالياً). وبين هؤلاء الكثير ممن باع أرضه إلى أبناء العباسية تحت شعار ما عرف حينها بـ(صندوق العونة). وعندما حان موعد التقسيم العقاري، فرزت البلدات بحسب وجود أبنائها وممتلكاتهم. وهكذا، ضمّ السهل إلى العباسية وحوش بسمة إلى عين بعال، فيما لم يكن لأبناء صور امتداد ديموغرافي أو تجاري خارج حدودها التي كانت حينها محصورة بالحارة القديمة ومحيطها».
الكيلومترات السبعة ذاتها تعرضت لاحقاً لتقسيم جديد. اللاجئون الفلسطينيون تمركزوا في البص والرشيدية، فيما المديرية العامة للآثار استملكت على نحو تدريجي حوالى ثلث المساحة. حتى إن المقابر التابعة للطوائف المسيحية والسنية والشيعية، قد استحوذت ليس على عشر المساحة، بل على رأس الجمل التي تعدّ أكثر الواجهات البحرية أهمية في المدينة خصوصاً بسبب قيمتها التاريخية. وكلما كانت المساحة تضيق، كان الصوريون يتكاثرون. ولما لم تعد الحارة قادرة على استيعاب الكثافة السكانية، بدأ مشهد الانتشار الصوري يتبدّل منذ مطلع الخمسينيات، إذ بزغت الملامح الأولى لحي الرمل، علماً بأن الشارع الذي يمثّل حالياً العصب الاقتصادي للمدينة كان شاطئاً رملياً دبّ فيه العمران، الذي تحوّل إلى عشوائيّ خلال سنوات الحرب. إلا أن السكن في ذلك الحي ظل مقتصراً في غالب الأحيان على أصحاب الدخل المرتفع الذين توجّه الأثرياء والمغتربون منهم إلى سهل الحوش. أما الفئات الشعبية، فكان لها المساكن الشعبية. في عام 1970، أنشأت الدولة اللبنانية 96 منزلاً للعائلات الفقيرة من أبناء الحارة في عقارات تابعة لها. المنطقة التي حملت لاحقاً اسم حي المساكن، تضخمت في عام 1978 إثر الاجتياح الاسرائيلي ونزوح عدد من أبناء القرى الحدودية الذين تمركزوا في عقارات تابعة لوزارة الزراعة وشكلوا حي الزراعة السكني. أما من لم يستسغ تلك الخيارات السكنية من أبناء صور، فقد توجه شمالاً نحو سهل العباسية الذي كان اللاجئون الفلسطينيون قد سبقوهم إليه في مطلع الخمسينيات وشكلوا تجمع جل البحر الممتد على مساحة كيلومترين من شواطئ بلدة العباسية. ويعد أحد رجال الأعمال من آل الرز، أول من حفر موطئ قدم صورية هناك منذ عام 1985، حين أنشأ مجمعاً سكنياً باسمه جذب العشرات من أبناء صور وبلداتها من أصحاب الدخل المرتفع.
إبّان وضع المخطط التوجيهي الأخير للمدينة قبل 12 عاماً، رفع أهالي صور عريضة طالبت بتوسيع حدود مدينتهم واعتماد المعيار الذي استند اليه تقسيم عام 1936 أي بضم أهل صور وأملاكهم إلى حضنها. وعليه، يكون جل البحر والحوش على الأقل، من نصيب صور، الأمر الذي أثار حينها اعتراضاً واسعاً من البرج الشمالي والعباسية. وبحسب بدوي، فإن «الاعتراض دائم لما تمثله جل البحر من كنز لناحية الأرباح التي تجنيها البلدية من الضرائب على الوحدات السكنية والتجارية والصناعية، فضلاً عن مستشفيين اثنين ومختبرات ومستوصفات وعيادات».
واللافت أنه في مقابل أعمال القضم، فإن صور شهدت أعمال ضمّ لأحياء جديدة. ففي عام 2004، صدر قرار عن وزير الداخلية والبلديات بضم قرية شبريحا إلى النطاق الإداري للمدينة وليس العقاري. وعليه فإن التجمع السكاني الذي نشأ على أراض زراعية عند أطراف بلدة العباسية الشمالي، في الستينيات، من بعض سكان القرى السبع، ينتخب في صناديق صور ويتبع لبلدية العباسية. هكذا، ورغم أن كيلومترات عدة تفصل بين شبريحا وصور، إلا أن حياً جديداً سُمّي حي البساتين أضيف إلى أحياء صور الأصلية الثمانية. كذلك، فإن حيّاً آخر أضيف تحت مسمى «مختلف» أي الوافدين الذين نقلوا نفوسهم إلى سجلات المدينة في مراحل مختلفة. ونجد في سجلات هذا الحي عائلات أرمنية وفلسطينية مجنسة.
كيف حال أبناء صور النازحين؟ التشتت بين محلَّي الإقامة والقيد واقع على أحد أعضاء مجلس بلدية صور الذي يقيم في النطاق العقاري لبلدية أخرى حيث له مصالح تجارية. ويشير إلى «تمييز في الخدمات تمارسه البلدية مع المقيمين الذين لا تستفيد من أصواتهم، لناحية النظافة وتأهيل الإنارة ورش المبيدات وحجم التجاوب مع المشكلات الطارئة». ويستعرض «محاولات» بلدية صور لأداء الواجب أمام أبنائها مثل المساهمة في إزالة الإعلانات المخالفة في البلديات المجاورة ومعالجة الحفر ورش المبيدات ورفع النفايات. فيما تنقذ الكتيبة الكورية العاملة ضمن اليونيفيل شبريحا من براثن الإهمال، لناحية الدعم التنموي والخدماتي الذي تحظى به لكونها واحدة من البلدات الواقعة في منطقة عملها. في هذا الإطار، يقرّ عضو بلدية العباسية محمد عز الدين بانتشار شعور التمييز بين المقيمين في جل العباسية، رغم أنه «ليس حقيقياً بالضرورة، وإن كان يقيم في بيروت ويشعر بالغبن أحياناً». لكن بالنسبة إلى أداء بلديته، فإنها لا تفرق بين «عباسي وأعجمي. الخدمات واحدة. الا ان الحاجات اكبر بكثير من الإمكانات، ومنها انها مضطرة يومياً لرفع أكثر من 28 طناً من النفايات يومياً».
في العريضة المزمع إطلاقها، يطالب منير بدوي بـ«لمّ شمل أهالي صور الذين تشتتوا اجتماعياً بعد تفرقهم جغرافياً». وإن كان الانتداب الفرنسي قد تسبّب بالتشتت الأول، فإن هيمنة رؤوس الأموال وتحكمها بأسعار العقارات أديا إلى تشتت آخر. العريضة لن تقتصر على مطلب إعادة النظر بالترسيم العقاري لحدود صور، بل على تعديل حدود أحيائها وأسمائها.